|
||
|
التدريب التربوي
الثلاثاء، 20 أغسطس 2013
الاثنين، 19 أغسطس 2013
|
التفكير الإبداعي
زينب حبش
أمين سرّ لجنة التربية والتعليم
وزارة التربية والتعليم العالي
.
هل
يمكن تعليم التفكير الإبداعي؟
ميّز الله الإنسان على سائر المخلوقات بالعقل. والعقل هو مركز التفكير. وأياً
كانت اللغة أو الوسيلة التي يستعملها الفرد، فهي تنتقل إلى العقل ليحلّلها
ويفسّرها.
ولقد ساوى الله بين جميع البشر أن زوّدهم بهذا الجهاز المدهش، ودعاهم إلى توظيفه
في حياتهم، باعتباره أداة للتعلّم تلازمهم طيلة حياتهم. كما شجّع على التعلّم في
كثير من الآيات.
" قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون" ( آية 9، سورة الروم)
ونبه إلى القدرات الكبيرة للعقل، الذي لا حدود للمعرفة لديه:
"... وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً" ( آية 85، سورة الإسراء)
وفي هذه الآية الكريمة إشارة واضحة إلى أنّ الإنسان لم يستعمل سوى جزءاً قليلاً
من قدراته العقلية، وأن المجال أمامه واسع لتعلّم المزيد.
كما أنها دعوة عامة
لمواصلة البحث والتعلّم، لا لفئة بعينها، وإنما لجميع البشر في كلّ زمان ومكان.
والعلم لا يتم إلا بالتعلّم
. والتعلّم يعني التفكير. والتفكير يقود إلى الإبداع.
"... وفي أنفسكم أفلا تبصرون"
( آية 21، سورة الذاريات)
"... الذين يذكرون الله قياماً
وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً
سبحانك فقنا عذاب النار" ( آية 191، سورة آل عمران)
لماذا يدعونا الخالق
إلى التفكير؟؟
وهل هناك إبداع مهما
بلغت درجته، يصل إلى إبداع الخالق في كلّ ما خلقه؟!
أليس التفكّر في ما
خلق الله دعوة إلى التفكير الإبداعي؟
ولما كان التفكير
مطلباً أساسياً في تقدّم الإنسان وتطوّره منذ بدء الخليقة حتى نهايتها، كان لا
بدّ من مواكبته لكل عصر من العصور. وبالتفكير نبني على الماضي ونبتكر من أجل
الحاضر والمستقبل.
وإذا ما تأملنا
الثورة التقنية العلميّة في عصرنا الحالي، وفيما واكبها من حاجة ماسّة إلى
مواصلة البحث والتقدّم في جميع المجالات، تحتّم علينا أن نفكّر جدياً في تطوير
القدرات المبدعة عند الأفراد منذ المراحل المبكرة في حياتهم. وهذا الأمر يتطلب
تطوير المناهج التعليمية وتحسينها باستمرار، وأن تتبنى المؤسسات التربوية تنمية
مهارات التفكير وتحفيزها والارتقاء بها لدى جميع فئات الطلبة، باعتبارها وسيلة
لتحقيق غايات وأهداف ملحّة ، لا كأهداف بحدّ ذاتها.
كما أن التغيير
السريع الذي يشهده العصر الحاضر ما هو إلا مقدمة لتطوّر أسرع وأشمل، ينتظر عالم
المستقبل . حيث ستقوم الآلات والعقول الالكترونية بالأعمال الروتينية، وتترك
للإنسان الأعمال الابتكارية والإبداعية. وهذا يتطلب منا أن نراجع أنفسنا، وأن
نغير أسلوب تفكيرنا، بحيث يُؤهلنا إلى التعامل مع علوم المستقبل واكتشافاته
وإبداعاته.
هناك العديد من
المبدعين على مدار التاريخ. منهم مبدعون في مجال محدّد، ومنهم مبدعون في مجالات
متعدّدة. ومنهم من قدّم إنجازات مبدعة في سنّ مبكرة أو في سنّ متقدّمة. ومنهم من
أبدعوا في الفن أو الموسيقى أو في العلوم والتكنولوجيا.
وما نطمح إليه في
عصرنا الحاضر، أن نجعل من التفكير الإبداعي مطلباً عامّاً لا خاصاً. بحيث يشارك
فيه جميع الأفراد في مختلف المجالات، لا أفراد بعدد الأصابع فقط، ليتحوّل العالم
كله إلى خلية نحل نشطة، وسيمفونية خالدة، يشارك فيها كلّ حسب دوره وقدراته
الإبداعية.
كانت الحاجة إلى
التفكير الإبداعي ملحة في كل عصر من العصور الماضية.ولولا المبدعون لما أصبح
لدينا هذا الكم الهائل من الاختراعات والاكتشافات، والإنجازات العلمية والأدبية
والفنيّة التي نقشت أسماء مبدعيها في الذاكرة الإنسانية على مدى العصور.
وما أحوجنا في هذا
العصر -عصر العلم والتكنولوجيا والعولمة وتفجّر المعلومات- إلى أن نواكب هذا
التقدّم السريع بالمشاركة الفاعلة في المعرفة والتعلم والإنجاز، لنقدّم للعالم
إبداعات خاصّة بنا، وناتجة عن أعظم ثروة نمتلكها ، وهي العقل.
سمعت من أحد الزملاء
الذين زاروا دولة ماليزيا، أن وزير التربية والتعليم حث طلبة الجامعات على
اختراع حاسوب قليل الثمن وخفيف الوزن ، ليكون بديلاً عن الكتب والقرطاسية التي
يستعملها الطلبة في المدارس وتكلف الدولة مبالغ باهظة سنوياً.
إنها دعوة عامة للتفكير والابتكار والإبداع.
ولا يتعارض هذا مع ما يدعو إليه ماتشادو (1989) ، وبما توّصل إليه الكسندرو
روشكا(1989)، من أن الذكاء حقّ طبيعي لكل فرد. وأن الإبداع يمكن أن يكون
جماعياً. كما لا يتعارض مع أفكار هبارد (1996) حول إمكانية تعليم جميع الأفراد
ورفع قدراتهم، ودرجة ذكائهم إلى أعلى مستوى.
ولقد دعاني هذا الموضوع إلى تأمّل الآيات الأولى التي نزلت على النبي محمد، صلى
الله عليه وسلم، (اقرأ باسم ربك الذي خلق(1) خلق الإنسان من علق (2) اقرأ وربك
الأكرم (3) الذي علّم بالقلم (4) علم الإنسان ما لم يعلم (5) ) صدق
الله العظيم ( آية 1-5 من سورة العلق).
" اقرأ " ، تعني فكّر. فالقراءة لا
تعني شيئاً إن لم تكن وسيلة للتفكير والفهم.
والقراءة هنا هي
قراءة سمعيّة، تتم عن طريق حاسّة السمع. فالنبيّ محمّد أمّيّ، لا يعرف
قراءة المادة المكتوبة. ولكنه قادر على القراءة السمعيّة التي تحوّلت بها
الألفاظ والعبارات إلى قوالب صوتية وألفاظ مسموعة، يستحيل على غير الأذن أن
تستعملها وتنقلها إلى مراكز الترجمة والتفسير في الدماغ. ( حبش
،1998، ص17)
ثم تُشير الآية
الثانية إلى موضوع خلق الإنسان، والذي يتضمن العقل والحواس، التي بها يستطيع
الإنسان أن يتعلّم.
أما الآية الثالثة،
فتُظهر الصفة الإلهيّة أي " الأكرم" ، بخلقه الإنسان على أحسن صورة
وأتمهّا .
أمّا " الذي
علّم بالقلم"، فهذه إشارة إلى أنّ الخالق العظيم قد طلب من جميع عباده
تعلّم القراءة والكتابة. بينما تؤكد الآية الخامسة، "علّم الإنسان ما لم
يعلم"، أن الله سبحانه قد منح الإنسان العقل والحواس ليتعلّم كلّ ما يريد
تعلّمه.
يقول الباحثون: إن
95% من الجهد المبذول للقراءة، يقوم به العقل، أو ما يحصل داخله (أي عملية
التفكير). أما الباقي، 5%، فتقوم به إحدى الحواس التي زوّدها الله سبحانه
لعباده. (الحاج خليل 1988)
وسواء اعتمدت القراءة
على أي حاسة من الحواس الخمس، فإن الجهد الأكبر لعملية القراءة يقوم به العقل ،
الذي هو مركز التفكير.
وإذا أردنا أن نُنشئ
جيلاً مُفكراً، علينا أن نُنشئ جيلاً قارئاً ومحللاً وناقداً منذ السنوات الأولى
لذلك الجيل.
نشر باير ( 1997) كتاباً حديثاً موضوعه (
وسائل تحسين التفكير في مدارسنا)، استعرض فيه مجموعة من الإرشادات والتوجيهات
العامة، موجهة إلى المعلمين، لتقديم فرص تعليمية / تعلميّة أفضل للطلبة، تدربهم
على استخدام مهارات التفكير المختلفة: التحليل والمقارنة والتفسير والتقويم. مع
التعرف على برامج التفكير الأكثر فعاليّة، والأخذ بعين الاعتبار الاهتمام بجميع
الطلبة وليس الاقتصار على فئة قليلة منهم.
وقد أصدر بنتلي (
1998) كتاباً حول التعلم خارج أسوار الفصل الدراسي:( نظام مدرسي لعالم مُتغيّر).
وأهم ما ورد فيه هو
طبيعة التعلم الفعّال الذي يواكب ويساير القرن الحادي والعشرين. وذلك عن طريق
توثيق العلاقة بين المدرسة والمجتمع والتكامل بينهما. ويؤكد على تطبيق الطلبة
لما يتعلمونه ، وانعكاسه على حياتهم الشخصية وعلى بيئتهم، ولا يقتصر على
الامتحانات فقط. مما يتطلب الإعداد الجيد للطلبة لممارسة التعلم المستمرّ وحلّ
المشكلات التي تواجههم طيلة حياتهم.
ومن أجل أن يكون
التفكير أكثر عمقاً وفاعليه، دعت ويليامز (1987م) في كتابها "التعليم من
أجل العقل ذي الجانبين" إلى العمل على تنشيط قوّة الجانب الأيمن من العقل
لدى الطلبة، ليُحقّقوا التوازن في مهارات التفكير، وليُنشّطوا إلى درجة عالية،
قدراتهم الإبداعيّة.
ومن الأنشطة التي
يمكن أن يُوظَّف بها جانبا العقل، الأيمن والأيسر : التفكير البصري، والخيال،
والمجاز ( التشبيه)، واستخدام جميع الحواس، والاستماع إلى الموسيقى، وإجراء
التجارب المخبريه، والقيام بالرحلات الميدانية. وهذه الأنشطة مفيدة لجميع فئات
الطلبة وفي جميع المراحل الدراسية.
ومن الجدير ذكره، أن
معظم المواد المدرسية وأساليب التعليم والتقييم تركّز على المواد والمعلومات
المرتبطة بالجانب الأيسر ، وتهمل إلى حدّ كبير المواضيع المرتبطة بالجانب
الأيمن، وهو الجانب الإبداعي.
أما ما قام به هبارد (2002م) من أبحاث في مجال
الإنسان والحياة، فهي تُعدّ أول تقنية عملية وفعّالة تتناول العقل البشري. وهو
يُشبّه قدرات العقل المثالي بالكمبيوتر ذي الكفاءات المتعدّدة. ويعتقد هبارد أن
العقل الذي تمتلكه، هو العقل " الذي يُمكن أن تسترد قدراته، وذلك عن طريق
علم الديانتكس ( Dianetics
)، أي تغلب قوّة العقل على الجسد". وهو يُعرّف الديانتكس بأنه:
" علم فكري منظّم، مبني على مبادئ محدّدة، يكشف لنا عن وجود حقائق طبيعية،
تؤدي بالفرد أو المجتمع إلى ممارسة سلوكيات معينة. كما يمكن بواسطة هذه الحقائق
التنبؤ بهذه السلوكيات" .
هذا العقل المثالي، هو هبة الله سبحانه لجميع خلقه من البشر، وهو الذي يُميزهم
عن سائر المخلوقات.
إلا أن الأحداث والمؤثرات النفسيّة والجسديّة التي تمرّ بالإنسان، والتي تسبّب
له الحزن أو الألم النفسي والجسدي، هي التي تؤثر على العقل، وتقلل من قدراته
وكفاءاته.
كيف؟
يقسم هبارد العقل إلى قسمين: أحدهما يُسمى الذهن التحليلي، والآخر الذهن
التفاعلي.
ومنذ بداية تكوين الشخص، أي منذ أن كان جنيناً، حتى آخر لحظه في حياته، يتم
تسجيل جميع الأحداث المفرحة والمحزنة، السعيدة والتعيسة، وكذلك جميع الحوادث
التي تؤثر عليه جسدياً ونفسياً، مثل حوادث الحرب والمشاهد المؤلمة المرتبطة بها،
أو الوقوع عن الدراجة أو حادث سير يترك لديه أثراً جسدياً مؤلماً، كالكسور وغير
ذلك. أو أية أحداث أخرى مثل فقد شخص عزيز.
جميع الأحداث السارّة، تدخل كشريط إلى الذهن التحليلي. أما الأحداث المؤلمة
والمحزنة، فتدخل جميعها إلى الذهن التفاعلي. وبالتالي تؤثر على قدرات الشخص من
جهة، كما تؤثر على الوضع الصحي والنفسي لذلك الشخص من جهة أخرى.
وفي هذا الصدد، يعتقد هبارد أن 70% من الأمراض الجسدية والنفسية، تعود إلى تأثير
الذهن التفاعلي على الأشخاص. من هذه الأمراض، الصداع المزمن، والروماتيزم،
والربو، والحساسية وغيرها.
إلا أنه يُمكن معالجة تأثير الذهن التفاعلي على الشخص. وذلك بالاستماع إليه،
والعودة به إلى المسار الزمني الذي سُجلت فيه الأحداث المؤلمة والمحزنة. بهذه
التقنية، يُمكن التخفيف من حدّتها ومن ثم إبطال مفعولها.
وفي الحالة التي تزول فيها جميع الأحداث المؤلمة والمحزنة من الذهن التفاعلي
للشخص، يتحوّل إلى إنسان صافٍ. عندئذٍ، يسترجع جميع قدراته ويكتشف أنّ لديه من
القدرات والإمكانات ما يفوق تصوّره.
هذا الشخص الصافي، لا يتأثر فيما بعد بأيّة أحداث مهما كانت، إذ تصبح لديه
القدرة على تحملها واستيعابها عن طريق الذهن التحليلي.
أما اليوم، فيعتبر الديانتكس ظاهرة عالميّة، يستخدمها الملايين في أكثر من 150
بلداً، وبأكثر من 50 لغة.
وتشمل أعمال هبارد التي عالجت موضوع الإنسان والعقل البشري، على عشرات الملايين
من الأعمال المنشورة، ككتب أو كمخطوطات، بالإضافة إلى أكثر من 3000 محاضرة
مُسجلة.
وإن أكثر الشهادات التي تحقّق رؤية هبارد، هي ملايين الأشخاص الذين يعملون اليوم
على نقل ميراثه نحو القرن الحادي والعشرين، والذين تزداد أعدادهم مع كل صباح فجر
جديد. ( هبارد، 2002 ).
أما سكوت وات
(2005م)، فهو يدعو كلّ فرد إلى أن يضاعف ذكاءه ، ويقوي قدراته الذهنية، ويُظهر
الطاقات الكامنة في عقله. ففي كتابه الشهير عالمياً " كيف تُضاعف
ذكاءك" يُشير وات إلى أن غالبية البشر، تميل إلى استخدام نحو 10% أو أقل من
قدراتهم العقلية، تاركين بذلك مخزوناً هائلاً من الطاقة العقلية المعطلة. وفي كتابه
هذا، يكشف عن الأساليب التي تساعد على استغلال تلك الطاقة ومضاعفة الأداء
العقلي. ومن أهم المكتسبات التي يُحقّقها الفرد، إنجاز أعماله في وقت قصير،
والقراءة السريعة مع الفهم السريع، وحلّ المشكلات الصعبة، والتأثير على الناس
الآخرين وتحديد الأهداف العظيمة ثم تحقيقها بسهولة. إلى غير ذلك. وهو يستشهد
بتجارب عمليّة مشوّقة تشدّ القارئ وتحفزه على متابعة القراءة . ومن ثم ،
تدفعه إلى تجريب تلك الأساليب .
ويرى ماتشادو (1989م)
أنه يمكننا أن نقيس تقدّم الأمة وفقاً للنسبه بين عدد المبدعين فيها وعدد سكانها
قاطبة. وأن تطوير كل الناس أمر ممكن. فثروة الأمة هي ثمرة عقول مواطنيها.
فكلما تضخّم عدد
الأذكياء المبدعين، فإن البشرية ستتقدّم أسرع. ويقول: " إن الغد يعتمد على
تربية اليوم بالنسبة لكل الناس، وإنه لا شيء ، على الإطلاق يمكنه أن يكون
أكثر أهميّة من هذا، وهو البدء في بناء المستقبل منذ الآن". ( ماتشادو،
1989، ص10).
والأهم من هذا، فهو
يؤكد أن بمقدور كل من الفرد والشعب أن يكون سيّد قدره. "فالأمم التي
لا تصمّم على الإصلاح الجذري لأنظمتها التربوية ، ستؤول إلى مستعمرات على نحو
قاطع. فليس هناك من قطر لا يكون بالكفء لأنه مستعمر، بل إنه مستعمر لأنه ليس
بالكفء" .( ماتشادو،1989، ص121).
وهذه دعوة عامّة
للتفكير الإبداعي الذي يحرّر الإنسان من قيود الجهل والتخلف في أيّ زمان ومكان.
إننا نعيش في عالم لا
مجال فيه للضعفاء، ولا أمل فيه للجهلاء. ولا نملك إلا أن نأخذ بمعايير العالم
الذي نعيش فيه. لذا لا بدّ أن نكون أقوياء، ووسيلتنا لذلك هي العلم، فالعلم
والمعرفة أصبحا يشكلان قوّة العالم الجديد. ( بهاء الدين ، 2003).
وإذا أردنا لأبنائنا
تنمية مواهبهم وإبداعاتهم، فعلينا أن نوفر لهم المناخ الديمقراطي والبيئة
الغنيّة، التي تترعرع فيها قدراتهم الكامنة في جميع المجالات.
كلنا نذكر اسحق نيوتن الذي سقطت عليه التفاحة. لو أنه لم يفكّر تفكيراً
إبداعياً، لما كان السباق في اكتشاف قانون الجاذبية. ذلك التفكير الإبداعي،
ابتعد به عن التفكير العادي الذي قد يستخدمه أي شخص آخر، سقط عليه شيء ما من
أعلى، واكتفى بالقراءة السطحية له دون أن يستنتج أفكاراً مبدعة تكون قد تولدت
منه . أما نيوتن فقد تعمق في التفكير الناقد لما حصل، فراح يتساءل، ويحلل،
ويُخمّن، ويتحقق… الخ. إلى أن وصل إلى اكتشافه الكبير الذي تعلمه جميع الطلبة في
كل أنحاء العالم. واستخدمه الملايين حتى وقتنا الحالي، في مجالات الصناعة والبحث
والتجارب العلمية المختلفة.
إذاً ، هو لم يكتفِ
بـ "ماذا حدث"؟ ، وإنما راح يفكر بـ "لماذا حدث" ؟
"وكيف حدث"؟
في الحقيقة ، من الصعب تعريف " التفكير الإبداعي" بكلمات محدّدة. فكما
لا نستطيع تعريف الشعر أو الجمال أو العبقرية إلى غير ذلك من المفاهيم العظيمة،
يصعب كذلك تعريف الإبداع، أو التفكير الإبداعي.
ولكن ، ربما استطعنا
من خلال النماذج والأمثلة أن نقترب من المعنى ولو قليلاً.
يُعرّف التفكير الإبداعي بأنه الاستعداد والقدرة على إنتاج شيء جديد. أو أنه
عمليّة يتحقق النتاج من خلالها . أو أنه حلّ جديد لمشكلة ما، أو أنه تحقيق إنتاج
جديد وذي قيمة من أجل المجتمع. ( روشكا، 1989، ص19)
ويعّرف كذلك بأنه التفكير الذي يؤدي إلى التغيير نحو الأفضل ، وينفي الأفكار
الوضعيّة المقبولة مسبقاً. وبأنه يتضمنّ الدافعية والمثابرة والاستمرارية في
العمل، والقدرة العالية على تحقيق أمر ما. وهو الذي يعمل على تكوين مشكلة ما
تكويناً جديداً ( سعادة وزميله ، 1996).
أما Gilford ( 1967)
، فهو يعرف التفكير الإبداعي بأنه تفكير في نسق مفتوح، يتميز الانتاج فيه بخاصية
فريدة تتمثل في تنوّع الاجابات المنتجة، التي لا تحدّدها المعلومات المعطاة. في
الوقت الذي رأى فيه Livin (1976)
التفكير الإبداعي، بأنه القدرة على حلّ المشكلات في أي موقف يتعرّض له الفرد،
بحيث يكون سلوكه دون تصنّع، وإنما متوقع منه ( قطامي 2005). بينما
يُعرّف بأنه نشاط عقلي مركب وهادف، توجهه رغبة قويّة في البحث عن حلول، أو
التوصل إلى نواتج أصيلة لم تكن معروفة أو مطروحة من قبل ( جروان،1999).
أما سعاده وزميله
(1996)، فقد اقترحا تعريفاً للتفكير الإبداعي بأنه " عملية ذهنية
يتفاعل فيها المتعلم مع الخبرات العديدة التي يواجهها، بهدف استيعاب عناصر
الموقف من أجل الوصول إلى فهم جديد أو انتاج جديد، يحقّق حلاً أصيلاً لمشكلته ،
أواكتشاف شيء جديد ذي قيمة بالنسبة له أو للمجتمع الذي يعيش فيه".
وهناك من يعتقد أنه لا بدّ من وجود عوامل أساسيّة مستقلة للقدرة الإبداعية،
والتي بدونها لا نستطيع التحدث عن وجود إبداع، وأهمها:
1- الطلاقة، أي القدرة على إنتاج أكبر عدد من
الأفكار الإبداعية في وقت قصير نسبياً. فالشخص المبدع لديه درجة عالية من القدرة
على سيولة الأفكار، وسهولة توليدها، وانسيابها بحرية تامة في ضوء عدد من الأفكار
ذات العلاقة.
2- المرونة: ويُقصد بها القدرة على تغيير
الحالة الذهنية بتغيير الموقف. وهذه تتجلى لدى العباقرة، الذين يُبدعون في أكثر
من مجال أو شكل، خاصة لدى الفنانين والأدباء الذين ينجحون في مجالات إبداعية
متنوعة، ولا تقتصر على إطار واحد. كالشاعر الذي يُبدع في كتابة الرواية
والمسرحية أو الفن التشكيلي. وهي تلك المهارة التي يتم استخدامها لتوليد أنماط
أو أصناف متنوعة من التفكير، وتنمية القدرة على نقل هذه الأنماط، وتغيير اتجاه
التفكير ، والانتقال من عمليات التفكير العادي إلى الاستجابة ورد الفعل وإدراك
الأمور بطرق متفاوته أو متنوعة ( سعادة 2003)..
3- الحساسية للمشكلات، فالشخص المبدع لديه
القدرة على رؤية الكثير من المشكلات في الموقف الواحد. فهو يحسّ بالمشكلات
إحساساً مرهفاً. وهو بالتالي أكثر حساسية لبيئتهِ من المعتاد، فهو يرى مالا يراه
غيره، ويرقب الأشياء التي لا يُلاحظها غيره، كمنظر غروب الشمس أو شروقها، على
سبيل المثال.
4- الأصالة، يمكن تعريف مهارة
الأصالة كإحدى مهارات التفكير الإبداعي، بأنها تلك المهارة التي تستخدم من أجل
التفكير بطرق واستجابات غير عادية، أو فريدة من نوعها ( سعادة 2003) ، أي أن
المبدع لا يُكرّر أفكار الآخرين، فتكون أفكاره جديدة، وخارجه عما هو شائع أو
تقليدي.
5_ الاحتفاظ بالاتجاه
ومواصلته ، فالمبدع لديه القدرة على التركيز على هدف معيّن، وعلى تخطي أي معوقات
ومُشتتات تُبعده عنه. وهو قادرٌ أيضاً على أن يعدّل ويبدّل في أفكاره لكي يُحقق
أهدافه الإبداعية بأفضل صورة ممكنة (حبيب،2003).
وهذه السمات
تكاد تكون عامة لدى معظم المبدعين في أيّ مجال من المجالات المختلفة، سواء في
المجال الفني أو العلمي أو الاجتماعي أو السياسي أو غير ذلك.
أما Parks
& Swart (1994)
فهو يرى أن خارطة التفكير تشتمل على ثلاثة أنواع وهي: الفهم والتوضيح،
والتفكير الإبداعي، والتفكير الناقد.
التفكير الإبداعي، هو الذي يفسح المجال للخيال، ويولد أفكاراً جديدة وخلاقة.
بينما يقوم الفهم والتوضيح بتوظيف مهارات التحليل، ويُعمّق القدرة على استخدام
المعلومات.
أما مهارات التفكير الناقد، فهي التي تُمكّن الفرد من التحقّق من معقولية
المعلومات وصحّتها . وهي التي تقود إلى الحكم الجيّد.
وهذه المهارات جميعها، تعمل معاً من أجل اتخاذ القرارات أو حلّ المشكلات. الأمر
الذي يجعل الفرد لا يستغني عن أيّ منها حين يحاول توليد حلول جديدة للمشاكل التي
يواجهها.
أما Fisher (2005)،
فهو يرى أن معرفتنا عن التفكير تنبع من المنحى الفلسفي والسيكولوجي، فمن خلال
الفلسفة وعلم المنطق، تمّ تطوير أسس التفكير الناقد. أما علم النفس المعرفي، فقد
اهتمّ بدراسة الدماغ وبكيفية تطوير أفكار إبداعية.
ويتفق Fisher
& Swart (2005)
مع Parks(1994)،
بأن الأنشطة العقلية مثل حلّ المشكلات واتخاذ القرارات تحتاج إلى توظيف مهارات
التفكير الناقد والإبداعي معاً.
والواقع أن مهارات ومهام التفكير مترابطة ومتداخلة. فالمبدع الذي يهدف إلى إنتاج
شيء أصيل ومتميّز، كقصيدة أو مقطوعة موسيقية، يحتاج إلى التأمل، وإلى مهارات
التفكير الناقد للحكم على جودة ما أنتجه.
لكي تنجز عملاً
إبداعياً، لا بدّ من أن تكون ناقداً بدرجة أو بأخرى. ولا بدّ لنا كمربين، من
التركيز على التفكير الإبداعي والتفكير الناقد في آن واحد. فالتفكير الإبداعي،
كما أوضح جان بياجيه ، يهدف إلى تربية أفراد قادرين على القيام بأعمال جديدة
ومبادرة، ولا يكتفون بإعادة ما توصل إليه من سبقهم أو بتقليدهم, أي أفراد مبدعين
ومخترعين ومكتشفين. أما التفكير الناقد، فهو الذي يهدف إلى الارتقاء بالتفكير
إلى التساؤل وتفحّص كل شيء قبل قبوله والتسليم به.
ومن الجدير ذكره،
أننا بحاجة ماسة إلى جيلٍ يفكر بحساسية مرهفة في مجالات متعدّدة في حياتنا
اليومية، مثل المحافظة على الممتلكات العامة وعلى النظافة العامة، وعلى احترام
حقوق الآخرين، وعلى النهوض بالمجتمع لتتحقق له ولجميع أفراده الحياة الكريمة.
هل يقتصر الإبداع على فن أو نشاطٍ معين؟ أم أنه يشمل جميع أنواع الفنون
والاختراعات العلمية والاكتشافات وغير ذلك؟
الحقيقة أنه يمكن للفرد أن يكون مبدعاً في أيّ مجالٍ من مجالات الحياة. وأن هذه
المجالات كثيرة ومتعددة. فهناك الإبداع العلمي والإبداع الأدبي والثقافي،
والإبداع الاقتصادي والإبداع الاجتماعي… إلى غير ذلك.
والإبداع ليس البدعة التي نهى عنها الإسلام. إنه العمل الذي يجد المبدع في
إنجازه سعادة كبيرة، والذي يقضي فيه وقتاً طويلاً و متواصلاً من أجل الهدف
النبيل الذي يخدم به الآخرين أو يُمتّعهم أو يبعث السعادة إلى قلوبهم.
إن أيّ حلّ جديد
لمشكلة مستعصية ، يكمن خلفها إبداع ومثابرة وصبر وعمل شاق ومتواصل من أجل الوصول
إليها.
وإن أي قصيدة أو لوحة
فنية أو قطعة موسيقية، تحمل في ثناياها إبداعاً مميزاً. وكذلك الأمر في اكتشاف
أو اختراع أي أداة أو مادة تخدم البشر وتسهّل حياتهم اليوميّة.
ونحن لا نبالغ لو
قلنا إن الإبداع كالذكاء ، يكمن في قلب كلّ إنسان خلقه الله سبحانه . وقد يلمع
فجأة في إجابة ذكية، أو سؤالٍ من نوعٍ خاص يحمل حلاً مبدعاً لقضية معقدة.
والإبداع الحقيقي لا
يعني التكيّف مع البيئة، وإنما أن نكيف البيئة حسب حاجاتنا ورغباتنا.
ولكي يكون الإنسان
مبدعاً، فإن عليه أن يحلم أحلاماً خيالية واسعة ( سعادة 2003).
يعرّف Parsks & Swart (1994) الإبداع بأنه القدرة على توليد الأفكار
واستخدام الإمكانيات وتوظيف الخيال لتكوين أفكار أو أشياء جديدة غير مألوفة
سابقاً. ويشير إلى أن قدرة الأفراد على توليد الأفكار الجديدة تعتمد على الخبرة
السابقة التي تشكل القاعدة بالنسبة لها. ومن ثمّ على القدرة في تمحيص هذه
الأفكار وإعادة صياغتها بحيث تصبح أفكاراً خلاقة وأصيلة، وتتميز بأنها نتيجة
التفكير الإبداعي لأولئك الأفراد.
أما Torrance ( 2003)، فهو يرى أن الإبداع
يعني التوصل إلى حلول جديدة، وعلاقات أصيلة، بالاعتماد على مُعطيات محدّدة.
وذلك بعد أن يتحسّس
الفرد مشكلة ما، أو نقصاً في المعلومات أو الفكرة. ويُضيف بأن عملية الإبداع
تشمل البحث عن إمكانيات مختلفة، والتنبؤ بتبعات ونتائج هذه الإمكانيات، واختيار
فرضيات وإعادة صياغتها حتى يتم التوصل إلى الحلّ الأفضل.
ويرى Fisher (2005) أنه عند مناقشة موضوع الإبداع، فلا بدّ
من الأخذ بعين الاعتبار جوانبه كلها: الفكرة أو الناتج الإبداعي، وميول وقدرات
الشخص المبدع، والبيئة التي تنمّي الإبداع.
فالعمل الإبداعي
برأيه، سواء كان فكرة، أو عملاً فنيّاً، أو عملاً علمياً، يكون أصيلاً ومميّزاً.
ولا يُعتبر أي عمل أعيد إنتاجه عملاً إبداعياً، مهما كان متقناً ودقيقاً.
فالإبداع هو مجموعة
من التوجهات والميول الوجدانية والقدرات العقلية التي يمتلكها الشخص، والتي
تمكنه من إنتاج أفكار أصيلة.
وعلى سبيل المثال،
فإن التلميذ الذي يحلّ مسألة في الرياضيات بطريقة جديدة ومستقلة، وغير معروفة
لديه سابقاً، يُعتبر مبدعاً.
والمعلّم الذي يستعمل
أساليب جديدة وتقنيات جديدة في مساعدة الطلبة على التعلم وعلى الإبداع، يُعتبر
معلماً مبدعاً.
وما نحتاجه حقّاً، هو
أن يُعيد كلّ معلّم النظر في أسلوبه وفي طريقة تفكيره، وفي معاملته لطلابه، وبأن
لا يكتفي بإعادة وتكرار ما هو معروف لديه ولديهم. وإنما يحثّهم باستمرار على
التفكير والاكتشاف والخلق والإبداع، الذي يساعدهم على الارتقاء بقدراتهم
العقليّة ويزيد من درجة ذكائهم. فالعملية التعليميّة/ التعلميّة المطوّرة، أصبحت
ضرورة من أهم ضرورات تنمية الثروة البشرية في وقتنا الحاضر. كما أن استعمال
الأساليب المبتكرة التي تخاطب كلّ أنواع الذكاء والحواس هي التي تمهّد الطريق
إلى الإبداع.
هل يقتصر الإبداع على شكل أو نوع معين؟
لقد قيل إنه توجد أنواع من الإبداع بقدر ما تشتمل عليه الطبيعة الإنسانية من
خصائص جسميه ونفسية وعقلية وانفعالية … الخ. فالإبداع العلمي يختلف عن الإبداع
الفني، كما يختلف الإبداع في المجال الواحد، حيث تتمايز الأنواع والأشكال
المختلفة للإبداع وفقاً لنوع العلم أو نوع الفن. ( روشكا، 1989، ص 108).
ويُمكننا إدراج بعض الإبداعات تحت الإبداع العلمي والتقني، والبعض الآخر تحت
الإبداع الفني.
هناك بعض الاختلافات التي تنتج عن وجود أو عدم وجود الاستعدادات والاهتمامات
الخاصة في طبيعة النشاط، والمعلومات والتقنيات ووسائل التعبير.
أما في مجال فن العمارة، فيلتقي الإبداع العلمي مع الإبداع الفني.
ومن الأمثلة على الإبداعات العلمية والتقنية، جميع المكتشفات والاختراعات
والأبحاث والتجارب العلمية والتقنية ، سواء كانت بشكل فردي أو جماعي.
أما الإبداعات الفنية ، وهي كثيرة، فيندرج تحتها الموسيقى والتمثيل والتجسيد
المسرحي والدرامي، وكذلك جميع الفنون الأدبية، كالشعر والقصة والرواية والمسرحية
وغير ذلك، إضافة إلى جميع أنواع الفن التشكيلي كالرسم والنحت والتصوير. إضافة
إلى باقي الفنون الأخرى المتعلقة بالمواضيع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية
وغيرها.
ليس غريباً أن يشمل الإبداع جميع ما يُمكن أن يُقدّمه الفرد أو الجماعة من أعمال
جديدة تتميّز بالأصالة والذوق الرفيع ، والتأثير في الآخرين. حتى أن المرء
يُعبّر عن إعجابه بها بكلمة : مبدع ، ورائع بطريقة تلقائية.
لا شك بأن العلاقة
بينهما عميقة، وتكاد أن تكون ملتحمة. فالمبدع مفكر وذكي. إلا أن "الإبداع
يتصف كذلك بالمثابرة والعمل الجاد لشخص نشيط ومرن وذي فعالية
عالية".(روشكا،1989 ، ص72).
ولا بدّ من وجود
دافعية كشرط أساسي للقيام بأيّ نشاطٍ عقليّ مبدع، كالحماس والحساسية والإنجذاب
لما هو غامض، وحبّ السؤال ، والرغبة في التميّز والخلق. ( ابراهيم، 1978 ، ص95).
وإن أي عمل إبداعي ،
ما هو إلا " عملية خلق شاقة، يقوم بها المبدع لكي يحتفظ بتكامله الشخصي أو
بتكامل مجتمعه." ( ابراهيم، 1978، ص107).
وإذا كان التفكير
الإبداعي يتصف بقيمته العالية ونتائجه المفيدة للفرد والمجتمع ، فهو إذن يقتصر
على استخدام الذكاء بطرقٍ إيجابية تخدم الشخص نفسه من جهة ، والآخرين المحيطين
به والذين يشاركونه العيش على هذا الكوكب، من جهة أخرى. بينما يمكن استخدام
الذكاء بطرق سلبية.
فالذي يفكر بصنع
الأسلحة المدمرة، هو شخص ذكي. ولكنه بدلاً من توظيف ذكائه في إبداع صناعات
لفائدة البشرية ورفاهيتها ، نراه قد صنع أدواتٍ لتدميرها.
لذا، فالذي يميّز بين
التفكير الإبداعي والذكاء، أنّ الأوّل يقترن بالقيم الإنسانية والمثل والأخلاق.
أما الثاني ، فقد ينحرف عنها أحياناً.
وفي حياتنا اليومية،
هناك الكثيرون من الأذكياء الذين يوظفون ذكاءهم في التزوير والخداع والسرقة
وغيرها من الجرائم ، بحيث لا يتركون أثراً يشير إليهم. أما التاريخ، فهومليء
بالأشخاص الذين وظفوا ذكاءهم بتشويه الحقائق من أجل مكاسب شخصية أو شهرة واسعة،
فدمروا، وقتلوا ونهبوا خيرات غيرهم من الشعوب. وهؤلاء إن كان التاريخ يذكرهم،
فمن أجل أن يستحقوا اللعنة على مدى العصور.
في حين أنّ المفكرين
المبدعين الذين قدّموا للإنسانية أعمالاً ذات قيمة عالية، فإن الأجيال تشكرهم
وتقدّم لهم التقدير الذي يستحقونه.
هذا ما يجيب عنه المفكر لويس البرتو ماتشادو، " أوّل وزير للذكاء في
العالم" فيقول: " ليس هناك شعبٌ أذكى من شعبٍ آخر، كما زعم دعاة
العنصرية والفوقيّة على الدوام، وبنوا أمجادهم على ظلم باقي الشعوب " . (
ماتشادو ، 1989، ص 32).
وهذا المفكر الذي عُيّن وزيراً للذكاء في فنزويلا، يؤكد أنه يمكن تعليم الذكاء
لجميع أفراد الأمة. وأن تعليم الذكاء مساوٍ لتعليم التفكير. ومن أجل ذلك، يجب
إعادة النظر في جميع مناهج التعليم وأساليبه، في عصر تفجّرت فيه المعرفة، لدرجة
أنه يصعب حتى على المتخصص، متابعة ميدان تخصصه. الأمر الذي يُحتّم علينا اختيار
ما هو أساسي لتزويد المتعلم به.
ويؤمن ماتشادو كذلك
بأن الثروة الحقيقية هي التي تكمن في العقل وقدرات التفكير . يقول: " ثروة
العقول هي الثروة الحقيقية للأمة. فالأمة الذكيّة هي الأمة التي تفكر. ومثل هذه
الأمة قادرة على توفير الحياة الكريمة لأبنائها. وقادرة أيضاً على درء الطغيان.
فالأمة الذكية تلفظ الطغيان متى حلّ بها. وإن لم تستطع ذلك، فيجب تجريدها من صفة
الذكاء". (ماتشادو، 1989، ص13).
ويلخص ماتشادو مسلماته بما يلي:
يمكن لكل فرد أن يكون ذكياً.
فالذكاء مهارة قابلة للتعلّم، وهو حق طبيعي لكل فرد.
ويؤكد ماتشادو على
ثلاثة أمور أساسية، يراها مرتبطة معا وفي غاية الأهميّة، هي: الحرية، والعدالة،
والذكاء. كما يُصرّ على الدور التربوي في بناء مجتمع حرّ، وعادل، وذكي.
ويؤكد كذلك، " أن العبقريّ ليس رجلاً خارقاً، إذ يمكن لكل رجل عاديّ أن
يكون ذلك الرجل الخارق". ( ماتشادو، 1989، ص17).
أما مفهوم الذكاء عند ماتشادو، فهو التفكير . فالذكي هو الذي يفكر. وإن طريق
الذكاء هو كل ما يجعل المرء يفكر على نحو أفضل.
وهذا يشمل المهارات الدراسية والقدرة الجيدة على حلّ المشكلات اليومية،
والمحاكمة العقلية، وقدرة التحكم بالذات وغير ذلك.
معظم الدراسات
والأبحاث تؤكد أنّ تعليم التفكير أمر ممكن.
وفي هذا المجال، أعدّ
معهد وايتمان في سان فرانسيسكو المشروع الرئيس للتفكير، "وهو مشروع صُمّم
لتنمية النماذج التربوية والتعليمية، التي ستسهم في إعداد الأفراد للتفكير
بطريقة إبداعية، في المستقبل وفي العالم" ( حبيب، 2003، ص71).
وهذا أمر هام جداً،
إذ لا يجب أن نكتفي بأن نساعد بعض الأفراد على اكتساب مهارات التفكير العليا،
وإنما علينا أن نساعد جميع الأفراد على ذلك.
لذا، فإن من الأهمية
بمكان البدء بالنشء، وذلك بإتاحة الفرصة لهم ، لممارسة التفكير الفعّال والمبدع،
الذي يعود عليهم وعلى مجتمعهم، وعلى الإنسانية كلها بالخير، من خلال المناهج
التي يتعلمونها يومياً.
فهم بناة المستقبل
وقادته ، وبأيديهم المشعل ، الذي ينيرون به الطرق لمن يسيرون معهم، ولمن
يتبعونهم. وهم أيضاً الذين يملكون أدوات التغيير في كلٍ من مجتمعهم المحلي
ومجتمعهم الإنساني.
وفي هذا المجال، يؤكد روث ( H.Roth)
قائلاً: " ينبغي على المدرسة أن تكون المكان الذي يتمّ فيه تطوير المواهب
وتحريضها، وأن علاقة المواهب بالتعليم أكثر أهمية من ارتباطها بالنضج وبالوسط
المحيط، وهذا ما يجعل طرائق التعليم تضطلع بدور جديد يتصف بالدلالة
والنموذجية". ( روشكا، 1989، ص 198).
ومن الجدير ذكره، أن الإبداع في سن مبكرة، يكون مؤشراً لإبداع حقيقي في وقت
لاحق.
ولكن ، هل يمكننا تعليم التفكير ؟ وكيف ؟
يجيب ماتشادو
عن هذا السؤال، فيقول
نعم. يمكن لكل فرد أن يكون ذكياً. فالتفكير مهارة. أي أنه قابل للتعلم
والاكتساب. وتعلم التفكير هو تعلم الذكاء، وإن التربية هي طريق الأمة لرفع درجة
ذكائها.
ويؤيد ماتشادو في آرائه حول الذكاء، دي بونو. فهو يقول : إن التفكير مهارة، ومن
ثمّ فإنه قابل للتعلم.
أما المربي الكبير ل. رون هبارد، فيؤكد بدوره أنه يجب علينا أن لا نكتفي بعددٍ
قليل من المتعلمين الأذكياء، وإنما علينا أن نغيّر نظام التعليم من أساسه،
ليتحقق التعليم للجميع في القرن الحادي والعشرين. ( هبارد ، 1996،
ص5)
والتعليم الذي يدعو
إليه رون هبارد يشمل تعلّم الذكاء وتعلم الأخلاق والقيم الإنسانية، على حدٍ
سواء.
قال الفيلسوف ديكارت : " أنا أفكر ، إذن أنا موجود ". وكأنه أراد أن
يقول بكلمات أخرى ، إن الذي لا يفكر هو شخص غير موجود. ولذا ، ربط التفكير
وأهميته بالوجود، أي بالحياة في هذا العالم.
تُعرّف مهارات التفكير الإبداعي بأنها تلك المهارات التي تمكّن المتعلم من توليد
الأفكار والعمل على انتشارها ، واقتراح فرضيات محتمله، كما تساعده على دعم
الخيال في التفكير ، والبحث عن نواتج تعلم إبداعية جديدة ( سعادة 2003).
وتكمن أهمية تعلّم مهارات التفكير بأن على كلّ فرد أن يفكر ليتعلّم ويفهم ويطبق
ما يفهمه في حياته.
والتفكير يبدأ لدى الأطفال في سنّ مبكرة، أي أنه يبدأ مع الطفل منذ نشأته في
المنزل، قبل وصوله مرحلة المدرسة.
والطفل الذي يجد الرعاية الكافية والمناسبة في سنواته الأولى، يكون مهيأً
للإبداع في واحدة أو أكثر من مجالات الإبداع المختلفة، لدى نموّه.
ومن أجل ذلك، دعا ماتشادو (1989) لبناء برنامج تعليم شامل للذكاء في فنزويلا،
بحيث غطّى مستشفيات الولادة، والجمهور والمدارس والجامعات والقوى المسلحة،
وأفراد الخدمة المدنية. واهتم المشروع بالطفل حتى وهو جنين في رحم أمه. فهو
يُدرّبها كيف تعتني بجنينها وطفلها. فالأعوام الستة الأولى من عمر الطفل ذات
قيمة كُبرى في حياته المستقبلية.
ويقول : " كل الأطفال العاديين موهوبون. والأطفال الموهوبون مجرّد أطفالٍ
عاديين، لاقوا العناية الفائقة. فإذا سمحنا للقلّة أن تُطوّر ذكاءها، فإنها ، لا
مناص، ستحتكر القوّة. وهناك الطغيان الأعظم." ( ماتشادو،
1989، ص20).
وهو يرى أن:
" الخالق وهبنا العقل كطريق يُنير العدل.
فالخالق لا يُميّز
بين الناس
والامتيازات من صنع
البشر أنفسهم".( ماتشادو، 1989، ص20).
كما دعا سعاده
(2003) إلى تدريس مهارات التفكير للطلبة في جميع المراحل الدراسية.
ونُلاحظ كذلك، أن
التجارب السابقة والاهتمامات بتعليم التفكير، بدأت بتوجيه الأمهات لرعاية
أطفالهن، وهم أجنّة في بطونهن. وهذا يعني أهميّة توعية الأمهات أولاً، ثم
المعلمين والمعلمات على اختلاف المراحل التي يُعلمون فيها، سواء كان ذلك في رياض
الأطفال أو المدارس أو الكليات المتوسطة، أو حتى في الجامعات.
وللإجابة عن السؤال
المطروح، ما أهمية تعليم مهارات التفكير؟ نرد على ذلك بأن المتغيرات السريعة،
وتدفق المعلومات التي لا حدود لها في عصرنا الحالي، تدعونا جميعاً لأن نُفكر
بطرق وأساليب جديدة، تتواكب مع هذه المتغيرات والمستجدات . والتي تُشير إلى
الحاجة الماسّة إلى المبدعين، لا على مستوى الأفراد فحسب، وإنما على المستوى
العام. خاصة وأن غالبية علماء النفس والباحثين التربويين، أصبحوا يُسلّمون بأن
القدرة على التفكير الابتكاري شائعة بين الناس جميعاً. وأن الفرق بينهم، يكمن في
درجة أو مستوى هذه القدرات. ( عبادة ، 2005، ص6).
لذا ، فإن تعليم
مهارات التفكير يُعتبر ضرورة مُلحّة، وحاجة أساسية من حاجات كلّ فرد، كحاجته إلى
الماء والهواء والغذاء. وكما أن الفرد بحاجة إلى تعلم مهارات القراءة لكي يقرأ
ويفهم ويتعلم بنفسه، وإلى تعلم مهارات الكتابة ليعبر عن أفكاره بنفسه، وإلى
تعلّم مهارات القيادة ليقود سيارته بنفسه، فهو قبل كلّ ذلك، يحتاج إلى تعلّم مهارات
التفكير ليفكر بنفسه، وليحلّ مشاكله الحياتية بنفسه.
ليس هذا فحسب ، فهي
تساعده على المشاركة في صنع القرار، كما تساعده في تحديد الأولويات والبدائل ،
والمشاركة في وجهات النظر عن طريق طرح الأفكار والآراء أثناء الحوار والمناقشة .
والأهم من ذلك، أنها تهيئ الفرد للتكيف مع المتغيرات الضرورية للانخراط في العمل
والحياة داخل مجتمعه الخاص والمجتمع الإنساني، على حدّ سواء. كما تُهيئه
للقيام بالأدوار القيادية والنجاح فيها. وتُساعده على التفكير المستقل،
وعلى السرعة في التفكير، وعلى استقبال أفكار الآخرين وفهمها وتقبلها أو مناقشتها
بطريقة علميّة ومنطقية، بحيث يتقبلها الآخرون بعقول متفتحة.
يعتقد بعض الباحثين
أن الأثر الكبير على الذكاء يكمن في البيئة، أي التربية. وبما أن العلاقة
بين الذكاء والإبداع علاقة متينة، إذن فما ينطبق على الذكاء ينطبق على الإبداع.
وهناك من يعتقد أن
للوراثة أثراً كبيراً على الإبداع، بدليل أن هناك العديد من الأطفال يُبدعون في
المجالات التي ُيبدع فيها آباؤهم وأمهاتهم.
وسواء كان للوراثة أو للبيئة تأثير على
الإبداع، فإن ما يهمنا هو ما نستطيع أن نوفره للشخص لكي يصبح مُبدعاً، أو ليطوّر
إبداعاته.
فمما لا شكّ فيه أن
التفكير الإبداعي يحتاج إلى بيئة مشجعة ومحفزة، سواء ورث الطفل ذلك أم لم يرثه.
وهناك مقولة، تؤكد ،
بأن في قلب كل فرد روحاً مبدعه. فإذا ما توفرت البيئة الملائمة، والمشجعة على
الإبداع، فإن تلك الروح تتألق وتزدهر.
ومن أجل ذلك، فإن
الأطفال بحاجة لأن تكون البيئة المدرسية والأسرية، غنيّة بكل ما يحتاجونه، وبكل
ما من شأنه أن يدفع بهم إلى النمو نفسياً وعقلياً وجسدياً ووجدانياً واجتماعياً،
ليبدعوا في واحدة أو أكثر من مجالات الإبداع المتعدّدة.
وهم يحتاجون بشكل
خاص، إلى نظام مدرسي، ومنهاج مدرسي يُعطيهم ويُعطي معلميهم مساحة كافية من
الحرية، التي تسمح لهم بالطلاقة في التفكير، وبإجراء التجارب، وبالتأمل،
وبالمطالعة الحرة، وبإعداد البحوث والدراسات، وبالاكتشاف، وباللعب ، وبالاستماع
إلى الموسيقى، وبالاستمتاع بقراءة الشعر وممارسة الرسم والكتابة الإبداعية،
وبتبادل الأفكار والآراء عن طريق النقاش الهادف والعصف الفكري، الذي
يُحوّل الأطفال إلى شعلة من النشاط الذهني المتوقد، والعيون البرّاقة، والقلوب
السعيدة أثناء مشاركتهم الفاعلة في جميع الأنشطة والأعمال المدرسية التي يقومون
بها برغبة ومحبة.
يقول رون هبارد
(1996) " إن أفضل أساليب التعلّم هي أن يشعر الطفل بأنه يحبّ كل عمل يقوم
به، وكل شخص يشاركه في ذلك العمل".
وسواء كان الطفل مبدعاً بالوراثة أم بتأثير البيئة، فلا بدّ له لكي يستمرّ
ويطوّر تفكيره الإبداعي، من بيئة ثرية تشحن قدراته وترتفع بها إلى الأعلى.
" فالمطلوب في هذا العصر مبدعون ومبتكرون ومكتشفون، وأناس لديهم القدرة على
التخيّل وسرعة التغيير ". (بهاء الدين، 2003، ص 178).
في كتابه ( المائة )، يشير الكاتب (هارت، 1985) إلى الإسهامات الخالدة التي
قدمها هؤلاء الأشخاص المائة للثقافة الإنسانية، لا في عصرهم فحسب، وإنما في
العصور التي تلته.
إن هؤلاء الأفراد
البارزين من المبدعين والقادة، يشتركون في امتلاكهم لخاصيّة العبقرية. وهذه
العبقرية تقاس من خلال مقدار التأثير الذي خلفته على المعاصرين واللاحقين.
وتعريف العبقرية لا
يميزّ بين الإبداع والقيادة. فحين نضع أشهر المبدعين وأشهر القادة تحت الفحص،
فإن ذلك الفرق بين الإبداع والقيادة يختفي، لأن الإبداع يُصبح شكلاً من أشكال
القيادة. فالمبدعون هم قادة ثقافيون.
وقد كان لأفكار
آينشتاين النظرية تأثيرها البالغ على زملائه من علماء الطبيعة بشكل خاص، وعلى
المجتمع العلمي بشكل عام. وكذلك كان تأثير بيتهوفن على الموسيقى وميكل أنجلو على
النحت وشكسبير على الدراما، تأثيراً كبيراً في زمانهم هم، وفي الأجيال التالية
لهم.
فالمبدعون المشهورون، هم قادة في الشؤون الفنية والعلمية.
(سايمتن،1993، ص15).
ونحن لو استعرضنا الإنجازات التي قدّمها المبدعون على مدار التاريخ، لأدركنا
تأثيرها المباشر وغير المباشر على الأجيال المتعاقبة جيلاً بعد جيل. حتى أننا
نكاد نراهم ونسمعهم ونتمثلهم أمامنا.
وسواء كان هؤلاء الأشخاص مبدعين في المجال السياسي أو الفني أو العلمي أو غير
ذلك، فإن تأثيرهم علينا يظلّ كبيراً.
وأهم ما يميزّ هؤلاء المبدعين، أنّ تأثيرهم لا يقتصر على شعب دون آخر، وإنما
يمتدّ ليشمل جميع شعوب العالم.
ولو تتبعنا التاريخ، لعرفنا كم كان للعرب تأثير على الثقافة الأوروبية في مجال
الطب والفلك والموسيقى والرياضيات وغيرها من الفنون. وفي الوقت نفسه، تأثرنا نحن
العرب بالإنجازات التي حققها مبدعون عالميون من شعوب أخرى.
وأيّ إنجاز يُقدَّم للبشرية ويجري تعميمه، يتحوّل إلى فكر أو علم أو فن، يمتزج
في العقل الإنساني للفرد، حيث يتحول إلى جزء حميم من فكر وعلم وثقافة ذلك الفرد.
وأي اختراعٍ مبدع، يتحوّل إلى أداة يستخدمها الآخرون، أو يقودهم إلى تطويره
والبناء عليه في مزيد من الاختراعات التي تخدم البشرية كلها.
وليس غريباً إذن أن يُعتَبر المبدعون قادة الحاضر والمستقبل، للأجيال المتعاقبة.
وكلما كان إنجازهم أكثر أهميّة، كان حضورهم أكثر تأثيراً. حتى أن برامز، وهو أحد
المبدعين في الموسيقى، فسّر توقفه عن كتابة إحدى سيمفونياته مدّة اثني عشر عاماً
بقوله:" إنك لن تستطيع أن تعرف كيف يشعر أمثالنا، عندما نسمع وقع أقدام
عملاق مثل بيتهوفن خلف ظهورنا" (سايمتن، 1993، ص15).
مما يشير إلى أن هؤلاء المبدعين يظلون حاضرين في أذهان من يتأثرون بإنجازاتهم
على مدى الزمان والمكان.
هل يقتصر الإبداع على الفرد دون الجماعة؟
لقد كان المفهوم سابقاً بأن الإبداع يكون فردياً لأن الذي يقوم به فردٌ واحدٌ.
أما فيما بعد، فقد تغير هذا المفهوم، خاصة في مجال البحث العلمي. حيث أنه يمكن
لمجموعة من المبدعين إنجاز اكتشافات أو اختراعات قدّموها معا،ً بجهودهم وأفكارهم
وبالتعاون فيما بينهم.
كما يُمكن لمجموعة من
الفنانين التشكيليين أن يشتركوا في إنجاز جدارية ضخمة. وهكذا.
إذن، فالإبداع يُمكن أن يكون فردياً كما في الشعر، أو جماعياً، بحيث يشارك فيه
مجموعة من الأشخاص المبدعين كعمل مشترك، كما في الهندسة أو الفن التشكيلي أو
الأبحاث الطبية. وقد يُشارك فيه عدد كبير من الأشخاص، كما في العروض الرياضية،
أو عزف السيمفونيات العالمية أو المسرح أو الأفلام ذات المستوى الرفيع.
ونحن في فلسطين قد أبدعنا في جميع هذه الأنواع ، خاصة خلال الانتفاضة الأم
وانتفاضة الأقصى الحالية. فلأوّل مرّة في تاريخ الشعوب المستعمَرة أو
المُحتلَّة، نجد شعباً بكامله يتحوّل إلى خلية نحل، فيتعاون ويقدّم كلّ أشكال
الإبداعات والتضحيات من أجل هدف واحد نبيل مشترك، هو الدفاع عن الحريّة.
ولم تقتصر إبداعات الشعب الفلسطيني على نوعٍ محدّد من الإبداع، فهناك الإبداع في
رتق النسيج الاجتماعي، وهناك الإبداع الفني والأدبي، وهناك الإبداع النضالي الذي
شارك فيه الطفل إلى جانب العجوز، والمرأة إلى جانب الرجل. والذي تحوّل إلى
سيمفونية خالدة في قلوب جميع شعوب العالم.
اخترع باسكال آلة حاسبة وهو في الثامنة عشرة من عمره. كما اخترع سكاي دايتون،
أحد الطلبة في مدرسة دلفاي بلوس انجلوس، شبكة ( earthlink ) الدولية وهو دون الثامنة عشرة. وكان قد
بدأ شركته بموظفين اثنين أو ثلاثة، وهي الآن تضمّ أكثر من (1200) موظفاً وموظفة.
صحيح أن العديد من
الاكتشافات والاختراعات تمت في سنّ مبكرة من مكتشفيها. إلا أن هذا لا يتعارض مع
وجود عمالقة في الأدب والموسيقى وغير ذلك، ممن كانوا يزيدون عن السبعين
والثمانين من أعمارهم ، أمثال غوته وبيتهوفن ومارك توين من الأجانب، وعمر الخيام
وطه حسين ونجيب محفوظ وغيرهم من العرب والمسلمين.
أي أن الإبداع يمكن أن يحصل في فترات عمرية واسعة، فهو قد يبدأ من الخامسة عشرة
أو أقل، ويمتّد إلى التسعين. إذ لا توجد حدود معينة في ذلك . وأفضل مثال على ذلك
الفنان الإسباني الكبير بابلو بيكاسو، الذي واصل نشاطه الإبداعي في الفن
التشكيلي إلى ما بعد التسعين، وكذلك الكاتب العربي الكبير نجيب محفوظ، الحاصل
على جائزة نوبل للآداب.
وتشير معظم الدراسات والأبحاث إلى أن سمات الإبداع تظهر لدى الأطفال قبل المرحلة
الثانوية. ثم تقوى وتزدهر في المرحلة الجامعيّة. أما النتاجات الإبداعية في مجال
الشعر والموسيقى، فيمكن أن تظهر في سن مبكرة. وعلى سبيل المثال، فقد قاد موزارت
أوبرا في ميلانو وهو في الرابعة عشرة من العمر، أما إينسكو، فقد ألف "
أسلوب القصيدة الرومانية وهو في سن الخامسة عشرة.
ومن جهة أخرى، فقد أبدع فيردي أوبرا فالستاف وهو في سن الثمانين، أما غوته ، فقد
أتمّ الجزء الثاني من كتاب فاوست وهو في الثانية والثمانين.
إلا أن المعطيات التي أوردها ليمان وآخرون، تبين أن النتاجات الإبداعية تنمو
باستمرار حتى الثلاثين إلى الأربعين من العمر، ثم تهبط تدريجياً.
إلا أن هذا لا ينطبق على جميع المجالات، ولا على جميع الحالات.
(روشكا، 1989، ص 148-149).
أما د. بهاء الدين (2003)، فهو يدعو إلى الاهتمام بالطفولة المبكرة، وذلك بأن
يبدأ التعليم قبل السن المدرسي. خاصة تعليم اللغات والموسيقى والمهارات اليدوية
الدقيقة. كما يدعو إلى استخدام أساليب مبتكرة تخاطب كلّ أنواع الذكاء وكل حواس
الطفل وعواطفه. وذلك من أجل التمهيد لتنمية قدراته على الإبداع والانطلاق بها
فيما بعد.
وفي ضوء ما تقدّم،
يتضح أن هناك مجالات يبدأ فيها الإبداع لدى الأفراد في سن مبكرة، وقد يستمر إلى
سن متأخرة أو لا يستمرّ. بينما هناك مجالات يظهر فيها الإبداع في سن متأخرة،
خاصة في المجال السياسي.
وما يهمنا نحن، أن ننمي الإبداع لدى جميع الأطفال من خلال برامج تعليميّة تحفزهم
وتتيح لهم فرصة الإبداع في المجالات المختلفة، وذلك بإثراء البيئة التعليميّة/
التعلميّة، وبتطوير المناهج، بحيث تلبي حاجاتهم وتقوّي دافعيّتهم للبحث
والاكتشاف، وتنمي مواهبهم وتصقلها وتفتح لهم باب الخلق والإبداع على مصراعيه.
هل يرتبط التفكير الإبداعي دائماً بالأخلاق؟
الجواب ، نعم. فالتفكير الإبداعي يرتبط في جميع الحالات بالقيم والأخلاق
والمبادئ الإنسانية.
فاكتشاف الذرة مثلاً، عمل إبداعي دون أي شك. خاصة إذا جرى استعمالها في المجالات
التي تخدم الإنسانية وتُساعد على رفاهية البشر وسعادتهم. أما إذا استُعملت لتدميرهم،
فإنها تُعتبر عندئذٍ عملاً ذكياً، لكنه لا أخلاقيّ.
ومثل ذلك اكتشاف الديناميت. فهو قد يُستعمَل لتفتيت الصخور من أجل استعمالها في
بناء المنازل السكنية والمدارس والمصانع والمستشفيات، ولكن إذا استُعمل لتدمير
هذه المنشآت، فإنه يُصبح عملاً ذكياً لا أخلاقياً.
وما نحتاجه في زماننا الحالي، هو الكثير من التفكير الإبداعي المرتبط بالأخلاق،
وبالقيم الإنسانية، في جميع المجالات.
فأي اكتشافٍ أو اختراع غير مرتبطٍ بهذه الأخلاق والقيم، قد يؤدي إلى نشر الأوبئة
وتدمير البيئة والقتل الجماعي للشعوب.
اختار مايكل هارت في كتابه " المائة" ، أهمّ الشخصيات الخالدة
على مدى التاريخ، ممن كان لهم أثر عالمي، سواء كان ذلك الأثر علميّاً أم
فنياً أم سياسياً أم دينياً. وقد كان على رأس القائمة النبي محمد صلى الله عليه
وسلم. فأثره لا زال عميقاً متجدداً، ليس فقط على العرب والمسلمين، وإنما امتد
ليشمل الناس كافة .
ليس غريباً أن تشمل القائمة عدداً كبيراً من المبدعين في العلوم كإسحاق نيوتن
وألبرت أينشتين ومايكل فرادي وغيرهم. وفي الأدب كويليام شكسبير وفي الموسيقى مثل
بتهوفن وباخ. وفي الفن كمايكل أنجلو وبيكاسو. وفي التاريخ كعمر بن الخطاب الذي
ساعد بذكائه وعبقريته على نشر الإسلام وتمكينه من البلاد الأخرى.
إلا أن الغريب أن تضمّ القائمة أشخاصاً كهتلر، باعتباره عبقرية شريرة إلى
جانب المبدعين والعباقرة الذين قدّموا إنجازاتهم لكلّ بني البشر.
لقد أصبح الربط بين التفكير الإبداعي والأخلاق مهمّة عالميّة، لا تقتصر على دولة
دون دولة، أو شعبٍ دون شعب . وإنما يجب على جميع دول وشعوب العالم، أن تتنبّه
إلى ضرورة التخلص مما هو ضار ومؤذٍ بالنسبة لها أو لغيرها. والى تحويل أية
اختراعات أو اكتشافات إلى ما هو مفيد لها ولغيرها. وبهذا يتجنب الجميع الكوارث
والمآسي التي قد تُسببها تلك الاكتشافات والمخترعات.
وفي هذا الشأن، يجدر بهيئة الأمم، أن تُعيد النظر في مهامها، وأن تقصرها على
تحقيق العدالة والحرية والسلام والسعادة لجميع شعوب الأرض.
كما يجدر بنا جميعاً كمربين، أن نُنشئ أطفالنا على ممارسة الأخلاق الحميدة،
والمبادئ الإنسانية وعلى قيم الحق والخير والجمال ، التي تكون بمثابة الحاضنة
لأفكارهم وإبداعاتهم في الحاضر والمستقبل.
هل للتربية أثر على الإبداع؟
إنّ التربية الحقة هي التي تقود إلى الإبداع، خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار
دورها الفاعل في تربية التلاميذ والطلبة كلهم، انطلاقاً من المقولة
التالية:" إن تربية الإبداع ممكنة لأي شخص طبيعي عادي من وجهة نظر عقلية.
وتوجد اليوم براهين كثيرة على أن أي شخص عادي يُمكن تطوير الإبداع لديه بقليل أو
كثير ، بهذا الاتجاه أو ذاك." ( روشكا، 1989، ص207).
ونحن حين نذكر التربية، فإننا نعني بذلك التربية الشاملة للفرد عن طريق المؤسسة
التربوية والبيت والمجتمع. إذ أن جميع هذه الجهود، يجب أن تتضافر جميعها، وأن
تنصهر معاً لتُشكّل قوّة الدفع لأي طفلٍ أو فردٍ في تنمية قدراته والانطلاق بها
إلى أقصى درجة.
ومن أجل ذلك أفرد سعادة (2003) دراسة خاصة حول تدريس مهارات التفكير ومهارات
التفكير الإبداعي ، تتضمن مئات الأمثلة التطبيقية، ليستفيد منها المربون،
وأولياء الأمور والطلبة على اختلاف المراحل الدراسية التي وصلوا إليها.
ونحن إذ نُؤكّد على دور المدرسة ، بشكل خاص، فلأنها الحاضنة الرئيسة ، إلى جانب
البيت، التي تضع في أعلى قائمة اهتماماتها ، التربية المتكاملة للنشء ، عبر
العمل والممارسة ، لأن ذلك هو الأداة الأساسية للتطوير المتكامل للشخصية، عقلياً
ونفسياً وجسمياً وانفعالياً واجتماعياً ووجدانياً. وهذا يُؤكّد الأهميّة الكبرى
لفعالية الإمكانات التربوية، التعليمية والتعلمية، التي تساعد على تكوين
الاستعدادات والخصائص والاهتمامات والإبداعات المختلفة لدى جميع فئات الطلبة.
ومن أجل ذلك ، يُفترض في النظام التربوي أن يتميّز هو نفسه بالإبداع . أي يواكب
العصر المتغير الذي نعيشه، والذي يتطلب من الفرد التسلح بالمهارات والقيم
والأخلاق التي تساعده على ممارسة حياته بشكل جيد، وعلى اكتساب المعرفة التي
يحتاجها بسهولة ، داخل المؤسسة التربوية وخارجها.
وهنا يكمن دور المؤسسات التربوية على اختلاف مستوياتها الأكاديمية. بحيث تقوم
بإعداد وتشجيع وخلق المناخ الملائم لإذكاء دافعية الطلبة على الإبداع في شتى
المجالات. وبأن تتبنى الأساليب الاستكشافية بدلاً من الشرح والتفسير، وبأن تركز
على الفهم والتطبيق بدلاً من الحفظ. وبأن تستفيد من التجارب المتراكمة في العالم
كافة، وفق منظور بنائي نقدي. وبأن تهتم بتطوير وتكوين الشخصية المبدعة لدى جميع
فئات الطلبة، وبتنمية القدرات الإبداعية لديهم نحو ما هو مفيد وذو قيمة. وتنمية
مشاعرهم نحو العمل من أجل رفاهية الإنسانية وسعادتها.
كلنا يعرف أن العديد من المكتشفات والمخترعات يُمكن أن تُستخدم من أجل الإنسان
ومصلحته، وفي الوقت ذاته، يُمكن استخدامها من أجل تدميره ووقف تطوره.
فالطاقة النووية
مثلاً، يمكن استخدامها من أجل تدمير البشرية، كما يُمكن استخدامها من أجل السلام
والصداقة وسعادة البشرية. ( روشكا، 1989، ص 37). ولن يتمّ ذلك إلا إذا توفرت
التربية الحقيقية وترسّخ مفهومها النبيل لدى جميع المتعلمين.
ويؤكد الباحثان،
كليمان وشيرياك " بأن تطبيق الطرائق الحديثة في التعليم والتعلم، تستلزم من
التربوي الهدوء والصبر إزاء النتائج التي يتم الحصول عليها عبر الاكتشاف الموّجه
. وبأن تنظيم هذه الطرائق في إطار عمل الجماعات في التعليم والتعلم عبر
الاكتشاف، هو تنظيم مُفيد ويمكن تعميمه. ( روشكا،1989، ص 208).
أما التعليم
التقليدي، فإنه يُعيق العبقرية ولا يدعمها.
وقد نبهت حبش (2002،ص9)
إلى ضرورة الانتقال من أساليب التعليم التقليدي إلى أساليب حديثه وفعّالة، تساعد
كلاً من المعلمين والطلبة على حدّ سواء، فتقول: " لم تعد عملية التعليم /
التعلم مجرّد عملية تلقين من جانب المعلم، وحفظ من جانب الطالب. وإنما عملية
تواصل وتفكير مشترك بين المعلم والطالب. وإلى تفاعل عميق مع البيئة الخاصة
والعامة، القريبة والبعيدة، في الماضي والحاضر والمستقبل".
ويمكن الاستشهاد
بألبرت أينشتين. ففي ملاحظاته في سيرته الذاتية كتب، " لقد كان على المرء
أن يحشو عقله بكل هذه المواد، سواء كان يحبها أم لا". ( سايمتن،1993،
ص105). ثم يُشير إلى أساليب التدريس التي تخنق حبّ الاستطلاع المقدّس لدى
الطلبة. ويُضيف، " هذه النبتة الصغيرة الطرية، تحتاج أكثر ما تحتاج إلى
الحرية فضلاً عن الحوافز. ومصيرها التلف لا محالة، إن لم تحصل على هذه الحرية.
ومن الخطأ القاتل أن نعتقد أن متعة الرؤية والبحث يُمكن أن تتعزّز من خلال وسائل
القهر والشعور بالواجب. " (سايمتن،1993، ص105).
وكذلك فقد أشارهبارد
(1996)، إلى أن 95% مما تعلمه في المدرسة، كان مجرّد حشو للمعلومات التي لم
يستخدمها طيلة حياته. ولذلك، فمن أولويات المؤسسة التربوية الحديثة، أن تهيئ
الطلبة، على اختلاف فئاتهم، إلى الحياة وإلى المستقبل . ومن أجل ذلك، يقع على
عاتقها أن تعلم الطلبة كيف يتعلمون، وكيف يوظفون ما يتعلمونه في حياتهم الخاصة
والعامة.
أما ماتشادو (1989) ،
فهو يعتبر أن المهمة الأساسية للدولة هي التربية. وبأن الحكم هو التربية. وليس
بالمستطاع أن تكون هناك مهمة للحكومة أعظم شأناً من الكفاح لرفع ذكاء الشعب.
وقد أشارت حبش( 1998) في كتابها ( تعلم كيف تتعلم بنفسك )، إلى ضرورة أن
"نُعلّم التلاميذ كيف يتعلمون . وذلك بأن نُنمي فيهم القدرة على التعلّم
الذاتي المستقلّ، الذي يستمرّ معهم مدى الحياة". ومن أجل ذلك، ركزت على
المهارات القرائية الأساسية التي تُساعد على التعلم السريع والفعّال لكل ما يريد
الطالب أن يتعلمه ويوظفه في حياته.
إن التعليم بمعناه
العصري هو التعلّم مدى الحياة، وتمكين الإنسان من خبرات التعلم الذاتي، فقد أصبح
من المستحيل أن نُحمّل أبناءنا خزائن المعلومات المتاحة لهم . فهذا
فوق قدرة أي بشر. وأصبح الخيار الأوحد هو أن نُسلحهم بمفاتيح هذه الخزائن فقط،
وأن نُعلمهم طريقة استخلاص المعلومات وطريقة تنظيمها وطريقة توظيفها. ومن أجل
ذلك، لا بدّ من تغيير أفكار المعلمين وسلوكياتهم وخبراتهم، وتدريبهم تدريباً
جيداً بحيث يتم إعدادهم لمهام ومسؤوليات جديدة ومُتغيرة . ( بهاء الدين 2003).
إن التربية الحقيقية هي التي تُساعد كل طفل على الارتقاء بقدراته وبذكائه إلى
أقصى درجة، وذلك عن طريق إفساح المجال له لاكتساب المهارات والقيم الإنسانية
وممارستها والتدرب عليها وتوظيفها في حياته اليومية. وهي التي تكتشف إبداعات
الطلبة منذ سن مبكرة، فترعاها، وتُهيئ لها البيئة التي تُساعد على نُموّها. ومن
ثم تُشجّعها وتُكافئها وتفخر بها.
يعتقد البعض أن الافتقار إلى الصحة النفسيّة أو الجسدّية واحدٌ من معوّقات
التفكير الإبداعي، وحتى التفكير العادي. حيث ينصبّ تفكير الفرد على نفسه وعلى
حاجته للعلاج.
وهناك من يعتبر أن للمناخ الطبيعي أو البيئة التي يعيش فيها الفرد أثراً سلبياً
عليه، إن لم تتوفر فيهما الشروط اللازمة لتنمية مهارات التفكير لديه.
كما أن هناك من يعتقدون أن الوضع الاقتصاديّ أو الاجتماعيّ المتردي، من أهم
معوّقات التفكير الإبداعي. وكذلك الحياة في ظلّ القمع وعدم الاستقرار والإحساس
بالأمن. أما حالات الرعب والقلق، فهي وحدها تؤدي إلى الارتباك والضغط النفسي.
كلّ هذه الأمور أو حتى بعضها، كفيل بأن يؤدي إلى عدم التركيز، وإلى التشتت
الذهني للأفراد والجماعات.
كما أن هناك عقبات تواجه التفكير الإبداعي مثل التربية التقليدية السلبية، التي
لا تسمح بالاطلاع على ثقافات الآخرين وجهودهم العلمية والأدبية والفنية. ولا
تتيح الفرصة لأبنائها للتفكير النشط والإبداع في المجالات المختلفة .
وأحياناً تكمن مثل هذه العقبات في الشخص نفسه، خاصة إذا اتصف بالكسل والخمول أو
الشعور بالنقص، والاعتقاد بالأفكار والآراء البالية، وضعف الثقة بالنفس،
والافتقار إلى المرونة، وضعف الحافز الذاتي، وضعف الحساسيه نحو المشكلات
والمواقف المختلفة، أو الانشغال الزائد في الأعمال الروتينية المملة. الأمر الذي
يساعد على إضعاف الروح الإبداعية، وربما العمل على قتلها ( سعادة 2003).
وهناك من هم على عكس ذلك تماماً، ممّن يعتقدون أن التفكير الإبداعيّ ينبع من قلب
الظروف الصعبة ، التي تجعل الفرد المبدع قادراً على ابتكار الأساليب والوسائل
للتخلص من تلك الظروف، أو للتكيّف معها بطرق مدهشة .
وعلى سبيل المثال، حين أصيب رون هبارد بالشلل التام وشبه العمى، قرّر أطباؤه أنه
حالة يائسة لا يُمكن شفاؤها. وبأن الشيء الوحيد الذي ظل سالماً من جسده هو عقله.
رفض رون هبارد الاستسلام لتقارير الأطباء، وراح يُفكر بالطرق التي تساعده على
الشفاء من مرضه.
واستمرّ في القراءة والبحث ( رغم ضعف نظره الشديد)، إلى أن استطاع أن يساعد نفسه
على الشفاء من العاهتين المستعصيتين: الشلل، وضعف النظر.
وهو لم يكتفِ بشفاء نفسه فحسب، وإنما ساعد الكثيرين من الأشخاص على الشفاء من
حالات مشابهة.
وكلنا يعرف أن بيتهوفن أبدع سيمفونيته التاسعة بعد أن فقد حاسّة السمع.
وهناك العديد من الحالات التي يُبدع فيها ذوو الإعاقات الجسدية، مُتحدّين
إعاقاتهم ومُركّزين على مجالاتٍ يُبدعون فيها.
إذن ، ما السرّ وراء ذلك؟
نحن نقول عادة:
الحاجة أمّ الاختراع. إذن حيثما تكون هناك حاجة مُلحّة لاختراع شيء ما يساعد على
تلبيتها، أو حيثما يشعر بعض الأفراد بأن لديهم القدرة والرغبة لسدّ تلك الحاجة،
يكون هناك إبداعٌ حقيقيّ.
وفي الوقت نفسه، إذا توفرت البيئة الغنية لجميع الأفراد لأن يُوظّفوا مهارات
التفكير لديهم، وإذا وجدوا التشجيع والحوافز والمكافآت والتقدير، سواء كان ذلك
بطريقة مادية أو معنوية، فإن ذلك يشحذ تفكيرهم إلى أقصى درجة، ويدفعهم إلى
اكتشاف وإنجاز واختراع ما لم يكن يخطر لهم أو لغيرهم على بال .
وحيث أن حاجتنا لا تقتصر على بضعة أفراد فحسب ليتفوّقوا في بعض مجالات الإبداع ،
وإنما إلى شعبٍ مُبدع ومُفكّر. الأمر الذي يتطلب منا كمربين وكحكومة وكأولياء
أمور، أن نُهيئ البيئة التي تُساعد على الإبداع لكلّ من الأطفال والراشدين، على
حدّ سواء.
17- الشخصية المبدعة
هل هناك مواصفات
خاصة بالشخصية المبدعة؟
ذكرنا سابقاً أن
الذكاء مرتبط بالإبداع . إذن فالمبدع شخص ذكي.
كما ذكرنا أن
الإبداع مرتبط بالقيم والأخلاق. إذن فالمبدع شخص يتحلى بالأخلاق الحميدة والقيم
الإنسانية.
كما ذكرنا أن
الإبداع يحتاج إلى العمل الدؤوب والمتواصل. إذن ، فالمبدع شخص نشيط
ومثابر، وهو كذلك ذو ثقة عالية بنفسه، يتحمل المسؤولية، ويبحث دائماً عمّا هو
جديد. كما أنه يبتعد عن التقليد والمحاكاة، ويبتكر ما هو أصيل.
والمبدع شخص خلاّق بالمعنى الدقيق للكلمة. قد يستفيد من تجارب
الآخرين، إلا أنه يُضيف إليها من ابتكاراته الخاصة. وهو عنيد ومغامر. يحلم
، ويعمل جهده على تحقيق أحلامه. وهو دائم التفكير ودائم العمل، ولا يثنيه عن
الوصول إلى أهدافه أي عائق مهما كان.
وفي دراسة حول
مشاهير المبدعين، تبين أن 90% منهم تميّز بدرجة عالية من الذكاء وحب الاستطلاع،
الذي لا يكفّ عن طرح التساؤلات. ( سايمتن ، 1989، ص77).
ثم إنّ هناك
الدافعيّة والرغبة في التفوق والشهرة والتوق للإنجاز والنجاح والفوز.
أما جيلفورد، فهو
يربط بين الشخصية المبدعة وبعض الخصائص، كالمرونة والطلاقة والأصالة والتفكير
التباعدي، أي المنطلق. ( روشكا، 1989، ص54)
بينما يرى غيره
أهمية الدافعية والمزاج واستقلالية التفكير.
كما يرى آخرون أن
هناك علاقة كبيرة بين الإبداع والصحة النفسية للشخص المبدع.
وإذا تتبعنا بعض
خصائص المبدعين، فإنهم يقضون ساعاتٍ وربما أياماً متواصلة في العمل. وبأنهم
قارئون من الدرجة الأولى.
أياً كان الأمر، فلا
شك أن المبدع يحتاج إلى بيئة تحفزه على الإبداع، وأشخاص يُشجّعونه ويُقدّرون
أعماله، ويساعدونه على المضي في أبحاثه وإنجازاته، وعلى نشرها وتعميمها
والاستفادة منها.
وهناك مؤشرات تُساعد أي
شخص على الإبداع في مجالٍ من مجالات الحياة المختلفة. منها، الذكاء والثقافة
والرغبة في العمل والنشاط المتواصل . وكذلك، الدافعية الداخلية والخارجية. كما
تساعد البيئة في تكوين وترسيخ الإبداع، خاصة في البيت والمدرسة. وذلك بإتاحة
الفرصة للأطفال للبحث والتجريب والدراسة بشكل مستقلّ أو بشكل جماعي.
ومن الجدير ذكره أن
هناك الشخصية متعددة الإبداعات. وهي الشخصية التي لا تُبدع في مجال واحد فحسب،
وإنما في عدّة مجالات في آن واحد. ونحن نطلق عليها الشخصية العبقرية.
مثال ذلك، ليوناردو
دافنشي، الذي كان رساماً ورياضياً وميكانيكياً ومهندساً ومكتشفاً في الفيزياء. (
روشكا، 1989، ص99).
كما أن هناك كثيراً
من العباقرة العرب والمسلمين الذين نبغوا في الطب والفلك والموسيقى والشعر
وغيرها من الفنون، مثل : الرازي وابن سينا وابن جني وعمر الخيام وغيرهم.
ويُمكن أن نستنتج
بأن العبقريّ النوعيّ هو ذلك الذي يملك طاقة عالية، وقدرة مُركّبة وغنية في سرعة
الانتقال من مجال إلى آخر . ومثل هذا المُركّب هو الذي يقود إلى الإنجاز
الإبداعيّ في أكثر من مجال، دون الإقلال من قيمة وثراء المجال الأساسيّ للمبدع.
( روشكا، 1989، ص 102-103).
وبشكل عام، فإن
الشخصية المبدعة أو العبقرية تتسّم بالجرأة في قول الحقيقة ، والشجاعة ، والثقة
بالنفس. ولا يهمها أن تجد معارضة لما تُقدّمه من إنجاز أيّاً كان نوعه. فهي
تُدرك جيداً أن ما تُقدّمه هو جديد، ويحتاج إلى وقت حتى يدرك الآخرون قيمته
وأهميته.
كما أنّ الشخصيّة
المبدعة تتسم بالشعور بالسعادة لما تقوم به من أعمال أياً كانت صعوبتها . وهي
مهذبة في التعامل مع الآخرين، وتتصف بالصدق والعدالة ومراعاة القيم الإنسانية،
وتتمتع بالروح المرحة، والتفاؤل، وبقدر كبير من الحضور الشخصي.
كل فرد منا يولد
مزوّداً بدماغ إلكترونيّ حيّ، ذي إمكانات لا حدود لها. وكل اختراع أو اكتشاف، ما
هو إلا نتيجة لدراسة تأمليّة من أحد الأفراد أو مجموعة من الأفراد الذين لهم
القدرة على الإبداع. أما السّر الحقيقيّ، فإنه يكمن في التربية. فالذين أبدعوا ،
تعلموا مُسبقاً كيف يُفكرون. وهذا مكمن الإبداع .
وإذا اجتمع الذكاء
مع القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية، فعندئذٍ فقط، تتحقّق العدالة والحرية
والسلام والسعادة لجميع البشر.
ولأهمية الأخلاق في
حياتنا جميعاً، خاطب الخالق سبحانه النبي محمد، صلى الله عليه وسلم، قائلاً:
" وإنك لعلى خلقٍ عظيم". صدق الله العظيم. ( آية 4 سورة القلم).
وهذا ما يجدر بنا
جميعاً أن نتّصف به.
والإنسان المبدع، هو
الإنسان الذي يجد سعادة كبيرة في تقديم إنجازاته للآخرين، كهدفٍ نبيلٍ يخدمهم به
أو يُمتّعهم ويبعث السعادة إلى قلوبهم.
والإبداع لا يقتصر
على مجالٍ محدّد، وإنما يشمل جميع مجالات الحياة. وهذه المجالات كثيرة
ومُتعدّدة، منها الإبداع العلمي والتقني والفني والأدبي والثقافي والاقتصادي
والاجتماعي إلى غير ذلك.
وإن أي حلّ جديد
لمشكلة مُستعصية، يكمن خلفها إبداعٌ ومثابرةٌ وصبرٌ وعملٌ شاقّ ومُتواصل، من أجل
الوصول إليه وتحقيقه.
وما أحوجنا في هذا
العصر، إلى أشخاص مُبدعين، لحلّ الصراعات الدامية التي تسود الكرة الأرضية، من
أقصاها إلى أقصاها. وما أحوجنا إلى عقول مُبدعة، لتوقف هذا النزيف المتواصل منذ
عشرات السنين على هذه الأرض المقدّسة. وما أحوج شعبنا الفلسطيني إلى مُبدعين ذوي
أخلاق وقيم إنسانية، ليُطبقوا العدالة، وليساعدوه في الحصول على حقوقه الإنسانية
والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. ليُمارس حياته بسعادة، وليُساهم بإبداعاته
الخلاقة واللامحدودة ، في دفع مركبة التقدم والازدهار الإنسانيّ إلى الأمام.
لكي نساعد أطفالنا وشبابنا على الارتقاء بقدراتهم وإمكاناتهم
الإبداعية إلى أعلى درجة، ولكي نساهم في تربية جيل متميّز يستطيع أن يخطو نحو
المستقبل بخطوات واثقة، فإنني أتوجه إلى أولياء الأمور وإلى المربين وإلى مؤسساتنا
التربوية والوطنية، بالاقتراحات والتوصيات الآتية:
1- استخدام الطرق المبدعة في عملية التعليم/التعلم لجميع
المراحل، ابتداء من رياض الأطفال حتى طلبة الدراسات العليا. بحيث يتم التركيز
على تعلم المهارات من أجل المستقبل.
2- إتاحة الفرصة لجميع فئات الطلبة لمعرفة: كيف يُفكرون وكيف
يتعلمون وكيف يستمتعون بكل ما يتعلمونه، وكيف يُطبقون أساليب تحسين الإبداع
وأساليب العصف الذهني واستثارة التفكير الناقد والتفكير الإبداعي. ومن ثمّ
مكافأة السلوك الإبداعي للطلبة، وإعلان ذلك في وسائل الإعلام.
3- حث الطلبة على ممارسة مهارات القيادة ،واستراتيجيات التفكير
الناقد، والتفكير الإبداعي. وذلك عن طريق تفعيل مهارات التفكير من خلال أساليب
التدريس ودمج التفكير في جميع البرامج المدرسية.
4- تشجيع الطلبة على استخدام مهارات القراءة ، والأساليب
الفعّالة في التعلم الذاتي المستقل، و استخدام جميع أنماط التكنولوجيا المتوفرة
التي تُساعدهم على التعلم مدى الحياة.
5- استمرار تطوير المناهج من أجل تعليم التفكير، وإمكانية الجمع
بين استراتيجيات التفكير، والتفاعل مع العديد من المواقف الحياتية. وذلك من خلال
إعادة هيكلة المناهج التعليمية في صورة جديدة، تُساعد على تدريب الطلبة على
استخدام تطبيقات مهارات التفكير والاستكشاف والمناقشة والتحليل والدفاع عن
الآراء والمعتقدات الشخصيّة والعمليات العقلية المعرفية.
6- ضرورة الاهتمام بعمليتي القراءة الإبداعية والكتابة
الإبداعية، لأنهما من أعقد الأنشطة العقلية. إذ تتطلب كلٌّ منهما: التمييز
السمعي والبصري، حلّ المشكلات ، والتقويم ، وإصدار الأحكام، والتخيّل
والإستنتاج، وتوظيف اللغة في مواقف جديدة، للتعبير عن أفكار جديدة، خالية من
الأخطاء الإملائية، وغير ذلك مما يتعلق بالنحو والصرف وقواعد اللغة.
7- خلق بيئة تُشجّع على التفكير الناقد، وتخصيص وقت للمناقشة.
وإعداد الطلبة ليُصبحوا أصحاب قدرة كبيرة على التفكير الناقد، والقراءة الناقدة.
وذلك بتضمين المناهج المدرسية تعيينات خاصّة بذلك، بحيث تشمل الحكم الجيد،
واتخاذ القرار الصحيح، والقدرة على تكوين المفاهيم وعمليات التصنيف وتعزيز دور
الإبداع. حيث أن تعليم التفكير الناقد يُشجّع الطلبة على التساؤل والبحث
والاستفهام والمناقشة والتحليل واكتشاف نقاط القوة والضعف في التفكير، وتقويم
المشكلات والعقبات والتعامل معها بعقلية مُتفتحة وناضجة.
8- إعداد برامج تثقيفيّة، وبثّها في وسائل الإعلام المرئية
والمسموعة، يتّم التركيز فيها على ممارسة التفكير الإبداعي، وعلى تعزيز المثل
العليا والقيم الإنسانية والأخلاقية، التي يكتسبُ منها الصغار والكبار مهارات
التفكير الإبداعي والسلوك الجيّد.
1- القرآن الكريم، القدس: مطبعة دار الأيتام الإسلامية الصناعية،
1964.
2- د. ابراهيم ، عبد الستار. آفاق جديدة في دراسة الإبداع.
الكويت: وكالة المطبوعات، 1978.
3- د. بهاء الدين، حسين كامل. مفترق الطرق. القاهرة: الهيئة
المصرية العامة للكتاب، 2003.
4- جروان ، فتحي عبد الرحمن . تعليم التفكير: مفاهيم وتطبيقات .
العين، دولة الإمارات العربية المتحدة: دار الكتاب الجامعي، (1999)م.
5- حبش، زينب. تعلم كيف تتعلم بنفسك. القدس: اتحاد الكتاب
الفلسطينيين، 1998م.
6- حبش، زينب. آفاق تربوية في التعليم والتعلم الإبداعي. رام الله:
مؤسسة العنقاء للتجديد والإبداع،2002م.
7- د. حبيب، مجدي عبد الكريم. اتجاهات حديثة في تعليم التفكير.
القاهرة: دار الفكر العربي، 2003م.
8- د. حميدة، فاطمة إبراهيم. التفكير الأخلاقي. القاهرة: مكتبة
النهضة المصرية، 1990.
9- خليل، د. محمد الحاج. تعلم كيف تتعلم سريعاً بالقراءة
الفعالة. عمان: دائرة التربية والتعليم لوكالة الغوث الدولية ومعهد التربية/
اليونسكو، 1988
9- روشكا، الكسندرو. الإبداع العام والخاص . ترجمة :
د. غسان عبد الحي أبو فخر. الكويت: عالم المعرفة، 1989م.
11- سايمتن، دين كيث . ترجمة : د. شاكر عبد الحميد. العبقرية
والإبداع والقيادة. الكويت: عالم المعرفة، 1993م.
12- د.سعادة،جودت أحمد، وقطامي، يوسف. (أ). " قدرة التفكير
الإبداعي لدى طلبة جامعة السلطان قابوس: دراسة ميدانية". سلسلة الدراسات
النفسية والتربوية الصادرة عن جامعة السلطان قابوس ، المجلد الأول، العدد الأول
ص.ص. 12-53، (1996)م.
13- د. سعادة، جودت أحمد. تدريس مهارات التفكير. رام الله : دار
الشروق للنشر والتوزيع، 2003م.
14- د. عبادة، أحمد. قدرات التفكير الابتكاري. القاهرة: مركز
الكتاب للنشر، 2005م.
15- قطامي ، نايفة. تعليم التفكير للمرحلة الأساسية. عمان : دار
الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، (2005)م.
16- ماتشادو، لويس البرتو . ترجمة : د. عادل عبد الكريم
ياسين. الذكاء حق طبيعي لكل فرد. قبرص: دار الشباب للنشر والترجمة والتوزيع،
1989م.
17- هارت، مايكل. ترجمة : أنيس منصور . الخالدون مائة أعظمهم
محمد رسول الله. الاسكندرية: المكتب المصري الحديث، ط6 1985م.
18- وات، سكوت. كيف تضاعف ذكاءك. ترجمة: مكتبة جرير. الرياض:
مكتبة جرير، 2005م.
19- ويليامز، ليندا فارلي. التعليم من أجل العقل ذي الجانبين.
ترجمة خبراء معهد التربية للأونروا/ اليونسكو. بيروت: مطابع الأونروا، 1987م.
20-
Hubbard, L.Ron. Dianetics- Developed Science: L. Ron Hubbard. Bridge
Publication, Inc. , India 2002
21- Hubbard, L.Ron. Humanitarian Education.
Los Angeles: L. Ron Hu bbard library, 1996.
|
|
|
|||||||
|
||||||||||
|
الاشتراك في:
الرسائل (Atom)